لم تكن الغارة الإسرائيلية التي قتلت السبت القياديين الإيرانيين الأربعة في دمشق، ردا مباشرا على موقف محدد، لكن سياقها المتزامن مع عمليات قصف إيرانية سبقتها بأيام، واستهدف أحدها حسب طهران موقعا للموساد في أربيل، يجعل من القصف الإسرائيلي الجديد، تنكيلا إضافيا بطهران وبتسويقها لصورة الدولة الإقليمية الكبيرة والمهيمنة.
ولطالما عرفت إيران بأنها يمكن أن تكون براغماتية بشكل كبير ومع أطراف غير متوقعة، ما دامت تحصل على مقابل مضمون ومناسب، لكنها حساسة بشكل خاص لانهيار صورتها كدولة قوية ممتدة الأطراف، واسعة القدرة والنفوذ عبر الإقليم، وإلا فإن ما بنته من عناصر ردع، سيتلاشى، ويشمل ذلك الخارج والداخل على حد سواء، ودونه سرعان ما تجد نفسها أمام تحديات تتعدى استقرار النظام إلى وحدة البلاد ذاتها.
لهذا السبب بشكل خاص، قام "الحرس الثوري" بضرباته الصاروخية التي شملت ثلاث دول (العراق، سوريا، وباكستان)، على أمل استرجاع جانبا من انهيار حاجز الردع بعد انفجاري محافظة كرمان مطلع العام، والضربات الإسرائيلية المتتالية التي قتلت اكثر من قائد ميداني كبير في سوريا، ومجموعة عمليات اغتيال وتفجيرات، داخل إيران ذاتها. هذه العمليات، لا سيما انفجاري كرمان، تسببت داخل ايران باهتزاز صورة النظام الذي طالما قدم نفسه لشعبه، على أنه لا يهزم، أو لا يمس، وقام بالكثير من عمليات القمع القاسية ضد معارضيه أو منتقديه، واوحى بأنه يستحق الطاعة والولاء ما دام يدافع عن ايران بهذه الصلابة ضد (الاستكبار والصهيونية).
وفضلا عن ذلك، كانت صواريخ الحرس نمطا من استعراض القوة، وسط مناخ جيوسياسي رخو، فرضته حرب غزة، وتطوراتها، والسنة الانتخابية المثيرة في الولايات المتحدة، وتداعيات حرب اوكرانيا، ومخططات الصين، وطموحات دول الخليج، وكل هذه الأحداث، ربما دفعت الحرس الى هذه الهجمات التي سرعان ما ارتدت على طهران، من غير ان تصيب خصومها باي خدش.
تلقت ايران ردة فعل سريعة وحادة وغير متوقعة من العراق المجاور، بطريقة تسببت لها بحرج بالغ، ونلت من كثير من نفوذها هناك، فقد سارعت الحكومة إلى تشكيل فريق تقصي للحقائق، قام في اليوم التالي بتكذيب الرواية الإيرانية، وسارعت بغداد إلى تقديم شكوى لكل من الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وهددت بتجميد اتفاقية امنية مع طهران، وسلمت القائم بالاعمال الايراني شكوى رسمية، وسحبت سفيرها من طهران للتشاور، إلى جانب إدانة سريعة من الجامعة العربية للهجوم الإيراني.
اعتبر هذا الرد العراقي، تطورا غير مسبوق في سياق العلاقات مع ايران منذ عام 2003، وتسبب على الفور بتحفيز الوطنية العراقية، وتوحيد العراقيين بشكل نادر، كما وضع حلفاء إيران من الميليشيات والسياسيين والإعلاميين، في زاوية محرجة، فصمت معظمهم، ولم يتحدث منهم سوى القليل، في سياق تبرير الهجوم الإيراني، وتعزيز الرواية الايرانية التي ادعت انها استهدفت مقرا للموساد في أربيل، وهو ما كذبته الحكومة العراقية التي أكدت ان الصواريخ أصابت منزل رجل اعمال عراقي كردي فقتلته مع أبنته الطفلة وضيف كان معه، وأصابت زوجته وطفله الثاني بجروح بليغة.
لكن النكاية الأكبر التي تلقتها إيران، جاءت من باكستان، حيث لم تنتظر الاخيرة سوى يومين قبل ان تقوم بهجوم مماثل، لكنه تم بسلاح الجو حسب البيانات الباكستانية واستهدف معسكرات لمسلحين انفصاليين بلوشستانيين معارضين لحكومة إسلام آباد يقيمون في عمق الحدود الإيرانية. قالت باكستان أنها قامت بجزاء هو من جنس العمل، وأن جيشها سيعيد أي أصبع يمتد إليها مبتورا من حيث جاء.
ابتلعت إيران الرد الباكستاني، دون تصعيد مقابل، سوى الكلام والتنديد، وبدلا من أن يقدم النظام مظهرا لقوته، تورط بشكل غير مفهوم مع قوة نووية، فأرسل صواريخ وتلقى مقابلها خرقا لأجواء إيران، وضربة في عمق 50 كيلومترا داخل أراضيه، فعزز صورته كقوة صاروخية، لكنه كشف عن ضعف دفاعاته الجوية، وخيبة طيرانه، وسهولة اختراق اجوائه، والأهم، أنه تلقى ما حاول تجنبه طوال أكثر من 35 عاما، حيث تعرضت أراضيه للقصف من دولة أجنبية للمرة الأولى منذ نهاية حربه مع العراق عام 1988.
وحدها سوريا، لم ترد، ولم يصدر منها شئ، وكان ذلك متوقعا على كل حال، لكن المثير للاستغراب أن إيران أطلقت صواريخ بعيدة المدى من عربستان في جنوبها الغربي، وقطعت نحو 1200 كيلومتر لتصيب مقرات لداعش في ريف حلب كما زعم بيان الحرس الإيراني، في حين أن ميليشياتها في سوريا تسيطر على مواقع قريبة من مكان الاستهداف، وكان يمكنها قصفه بأسلحة أقل تكلفة وأكثر دقة وكثافة نارية وأشد تدميرا، وهو ما يعزز فرضية أن طهران أرادت استعراض القوة، أو ربما تسويق صواريخها كما توقعت نيويورك تايمز.
في حصيلة المغامرة أو (البلطجة) الإيرانية، أن طهران ربما أرادت إرسال رسائل قوة عن امتلاكها صواريخ بعيدة المدى تصل إلى خصومها في الإقليم، لكنها بعدما تلقت رسائل مضادة حادة ومحبطة لها من العراق وباكستان، أعادتها للمربع الأول، مع خسائر إضافية في الصورة والمكانة، عادت وتلقت ضربة إسرائيلية أكثر قوة، بمقتل مسؤول استخبارات فيلق القدس ونائبه في الغارة الإسرائيلية على دمشق، والعبرة هنا، أن القصف لم يطل قيادي عاديا، بل مسؤول استخباري رفيع، يفترض أن يكون خبيرا بالتخفي، وتضييع الأثر، وهو أيضا يشبه الصندوق الأسود لتحركات (فيلق القدس) وخططه، والوصول إليه يطرح أسئلة كبيرة أخرى، عن الانكشاف الإيراني أمام إسرائيل في سوريا، وعن هشاشتها، وضعف حيلتها، وكذلك عن طبيعة (المصادر) التي تزود إسرائيل بالمعلومات، وهل هي من داخل النظام السوري، أم من الحليف الروسي، بسبب طبيعة الشخصيات المستهدفة والدرجة العالية من السرية لتحركاتهم.
ولكن هل يمكن أن تقوم إيران برد ما لاستعادة بعض من هيبتها المكسورة؟ من الواضح أن طهران ستحرص على عدم الانزلاق إلى دوامة مواجهة مباشرة وشاملة، فهي لا تريد احراج ادارة بايدن، في عام انتخابي حساس وحرج في الولايات المتحدة، ولنتائجه أهمية خاصة في الاعتبارات الايرانية، وبحاجة إلى توازن دقيق بين الدبلوماسية والقوة الخشنة المحدودة لاحتواء كل التطورات حتى لا تفاجئها عودة ترامب للبيت الأبيض، ومعه تعود حسابات جديدة أشد وقعا عليها بكثير.
*المصدر: المدن